الجمعة، 17 مايو 2019

البلاغة القرآنية بين "صم بكم عمي فهم لا يرجعون" و"ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما"


تساءلت إحدى الأخوات في فيسبوك هذا السؤال في صفحتها:
في سورة البقرة قال-"صم بكم عمي فهم لا يرجعون".
في سورة الإسراء قال-"ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما".

فما سر هذا الترتيب يا ترى؟!
علما أن الأولى تتكلم عن الدنيا والثانية تتكلم عن الآخرة.

الجواب: بعد بحث في التفاسير وجدت الإجابة عند الشيخ محمد عبده في تفسير المنار فلخصت مقاله بما يتناسب مع السؤال حيث يقول:
ومن نكت البلاغة في الآية أن قوله تعالى: (صم وبكم في الظلمات) في معنى قوله تعالى في "سورة البقرة ": (صم بكم عمي 2: 18) فلماذا سردت الصفات الثلاث في البقرة مفصولة ووصلت كلها بالعطف في آية الإسراء (17: 97)؟ لم أر لأحد كلاما في الفرق بين هذه الآيات... والذي يظهر لنا في المقابلة أن ترك العطف في آيتي البقرة لبيان أن هذه الصفات لاصقة بالموصوفين بها مجتمعة في آن واحد، والأولى منهما في المختوم على قلوبهم الميئوس من إيمانهم من المنافقين وغيرهم، والثانية في المقلدين الجامدين، وكل منهما لا يستمع لدعوة الحق عند تلاوة القرآن وغيره ولا يسأل الرسول ولا غيره من المؤمنين عما يحوك في قلبه ويجول في ذهنه من الكفر والشك، ولا ينطق بما عساه يعرف من الحق، ولا يستدل بآيات الله المرئية في نفسه ولا في الآفاق، فكأنه أصم أبكم أعمى في آن واحد... وأما آية الإسراء فلا يظهر فيها هذا التقسيم ولا معنى ما دلت عليه آيتا البقرة من إرادة اجتماع تلك الصفات الثلاث الحائلة دون جميع طرق الهداية، وإنما تفيد أن هذه العلل تعرض لهم في حالات وأوقات مختلفة من يوم الحشر والجزاء، فيكونون عميا هائمين في الظلمات على وجوههم (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم 57: 12) فلا يرون الطريق الموصل إلى الجنة عندما يساق أهلها إليها ويكونون بكما (هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون 77: 35، 36) وذلك في بعض مواقف القيامة وأحوالها، ويكونون صما لا يسمعون شيئا يسرهم عندما يسمع المؤمنون المتقون بشرى المغفرة من ربهم. ويؤيد هذا التفسير مجموع ما ورد في الآيات والروايات من بيان حال الكفار في الآخرة، وروي نحوه عن ابن عباس - رضي الله عنه - فظهر الفرق بينه وبين آيتي البقرة المراد بها اجتماع الصمم والبكم والعمى في حال واحدة ووقت واحد، كأنها صفة واحدة، ولو حصل بعضها دون بعض لما أفادت أنهم لا يؤمنون.
وتأمل كيف بدأ بذكر الصم في سياق الكلام عن دعوة الإسلام وبيان إعراضهم عن قبولها، وبدأ بذكر العمى في سياق الكلام عن الحشر، فيا لله العجب من دقائق بلاغة هذا القرآن التي أعجزت البشر، وكلما غاص غائص في بحارها استفاد شيئا جديدا من فوائد الدرر، فلا تنفد عجائب إعجاز مبانيه، ولا تنتهي عجائب إعجاز معانيه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق