في الأيام الماضية كنت منهمكا بقراءة موسوعة الدكتور محمد عابد الجابري المسماة نقد العقل العربي والتي ظهرت أول طبعة من جزأها الأول " تكوين العقل العربي " في عام 1984م وظهر آخر جزء منها العقل الأخلاقي العربي في عام 2001م.
الموسوعة تتكون من أربعة كتب : تكوين العقل العربي في 351 صفحة، بنية العقل العربي في 573 صفحة، العقل السياسي العربي في 374 صفحة، العقل الأخلاقي العربي في 630 صفحة. ليصل مجموع صفحاتها مع الفهارس إلى 2000 صفحة تقريبا. كنت أقرأ بمعدل 100 صفحة يوميا تقريبا، قد أزيد بعض الأيام وقد أنقص.
أذكر هذه المعلومات لأجد نفسي عذرا من تلخيص هذه الموسوعة في مقالة واحدة، ولكن سأحاول أن أعطي إضاءة حول كل جزء.
الجزء الأول: تكوين العقل العربي، يشرح الجابري في هذا الكتاب ماهية العقل الذي سوف يتحدث عنه، ويلخص قوله بأنه هو القواعد الفكرية التي تحدد طريقة تفكير لكل شخص ينتمي إلى الثقافة العربية، إذن ليس هو التفكير نفسه ولكنه طرق التفكير وأسسه.
ولتتبع تطور هذه الأسس والقواعد فإنه يحدد عصر التدوين كبداية للثقافة العربية المكتوبة وأيضا كنهاية لأن الفكر العربي لم يتطور منذ تلك الفترة حتى الآن.
وحتى يسهل تتبع أسس التفكير فإنه يقسم الثقافة العربية إلى ثلاثة أنواع : ثقافة بيانية وهي تهتم باللغة العربية والفقة وأصول الفقه وعلم الكلام، ومحور الإشكالية التي يحاول هذه النوع من الثقافة هو العلاقة بين اللفظ والمعنى. وتبرز هذه الإشكالية من أين نبدأ؟ ففي العلوم العربية و تفسير القرآن والحديث وأصول الفقه وعلم الكلام عادة تبدأ من اللفظ لتحدد المعنى وليس العكس، وهنا مكمن الضعف أساس هذه الثقافة فهي تقدم الألفاظ عن المعاني والعكس هو الصحيح.
الثقافة الثانية هي ثقافة العرفان وتدعي هذه الثقافة أن المعرفة تأتي بالكشف والإلهام وهي تنتمي في أصلها إلى الموروث الهلنستي والغنوصي المنتشر قبل الإسلام والذي انتقل إلى الإسلام عن طريق الفلاسفة العرب أصحاب نظريات الفيض والعقول العشرة ومن ثم عن طريق المتصوفة. هذه الثقافة لا تقيم للألفاظ والمعاني والعقل قيمة في اكتساب المعرفة بل المعرفة الحقة هي المعرفة التي تأتي عن طريق الكشف والعرفان وذلك بمجاهدة النفس والزهد والتقشف حتى تنكشف الحقائق وتقذف إل القلب مباشرة.
الثقافة الثالثة هي ثقافة البرهان وهذه الثقافة تعتمد على العقل بشكل أساسي لتحصيل المعرفة الصحيحة وهي نتيجة عن الموروث الإغريقي وخصوصا مؤلفات أفلاطون وأرسطو. هذه الثقافة دخلت إلى الثقافة العربية عن طريق الترجمة وقد أستخدمها أصحاب الثقافة البيانية والعرفانية في نهاية المطاف لتعزيز حججهم بالمنطق والعقل ولإضافة شرعية لهما، للأسف اكتسحت هذه الثقافة من قبل منافسيها وأصبحت أداة وآلة فقط لإثبات حجج الغير.
نكون بذلك قد أنهينا الجزء الأول من موسوعة نقد العقل العربي، يأتي الكتاب الثاني بنية العقل العربي كدراسة تحليله نقدية لنظام المعرفة في الثقافة العربية، يشرح مما تتكون كل ثقافة وماهي إشكاليتها ومآزقها، مستشهدا في كل ذلك بالنصوص كثيرة من أمهات كل ثقافة، مما يفتح لك بابا واسعا لمعرفة الثقافة العربية والإطلاع على أمهات الكتب فيها.
ننتقل سريعا إلى الجزء الثالث وهو عن العقل السياسي العربي وهو يتكلم عن نظم وأسس التفكير السياسي العربي عبر تاريخه، وقد أرجع كل الأسس إلى ثلاثة أسس في البداية: القبيلة والغنيمة والعقيدة.
القبيلة مما لا شك فيه هي أساس كل تفكير سياسي قبل الإسلام وعصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية، تأتي بعد ذلك الغنيمة وهي الأموال التي يحصل على الفاتحين العرب من الجهاد في سبيل الله وهذا الأساس لعب دورا كبيرا في عصر الخلفاء الراشدين وبداية الدولة الأموية، لأن العرب لم يكن لهم مصدرا ماليا غير الغنيمة من الفتوحات. والمعنى المعاصر لهذا الأساس هو المال.
يأتي بعد ذلك الأساس الثالث هو العقيدة والمعني به هنا هو العقيدة الإسلامية والإسلام نفسه، وهو أساس متين في الفكر السياسي عبر العصور الإسلامية. كل هذه الأسس كان واضحة وبدرجة كبيرة قبل سيطرة دولة بني أمية على دولة الإسلام أما بعدها فظهرت أسس جديدة في الفكر السياسي العربي وهي ميثولوجيا الإمامة والأخلاق السلطانية.
أما ميثولوجيا الإمامة فهي نظرية الإمامة عند الشيعة وارتباطها بالوصية والإمام وعصمة الإمام عن الخطأ وعودة الإمام الغائب وربط كل ذلك بأساطير وقصص خرافية حول الإمام حتى يعطو الأمل عند الضعفاء حتى عودة الإمام المنتظر، وبلا شك فإن هذه هي ثقافة الضعفاء والعاجزين في كل زمان.
أما الأخلاق السلطانية في أساس جديد في الفكر السياسي العربي جاء من الموروث الفارسي حول وجوب الطاعة والانقياد إلى السلطان والذي يشابه الإله في الأرض، بدأ هذا الأساس من عند ابن المقفع في كتابة الأدب الصغير والأدب الكبير و رسالة الصحابة، وليصبح بعد ذلك من أساس أي كتاب في الأدب العربي أن يفتتح حول وجوب وجود سلطان في الأرض حتى يتم به العدل ووجوب الخضوع له كعبيد.
أما الجزء الأخير العقل الأخلاقي العربي فهو دراسة فريدة من نوعها حول تاريخ الأخلاق وبنيتها وأسسها في الفكر العربي، يقسم الدكتور الجابري أسس وبنى الأخلاق في الثقافة العربية إلى خمسة أقسام: الموروث الفارسي المتمثل في أخلاق الطاعة والخنوع، الموروث اليوناني المتمثل في أخلاق السعادة، الموروث الصوفي المتمثل في أخلاق الفناء وفناء الأخلاق، الموروث العربي الخالص المتمثل في أخلاق المروءة، وأخيرا الموروث الإسلامي المتمثل في المصلحة.
قد يكون أخطر موروث على العقل الأخلاق العربي هو الموروث الفارسي أخلاق الطاعة والانقياد إلى السلطان ولو كان غاشما ظالما جبارا، لقد تغلغل هذا الفكر في بنية العقل العربي بدرجة خطيرة جدا حتى صارت أخلاق الطاعة تجد مستندها من القرآن الكريم والأحاديث النبوية و كتب الأدب العربي.
وأكبر شاهد على ذلك كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع الفارسي لقد اشتهر هذا الكتاب بدرجة كبيرة في الماضي والحاضر وهو ممثل كبير عن أخلاق طاعة السلطان، يأتي بعد ذلك كتاب ابن قتيبة وكتاب ابن عبد ربه العقد الفريد وكتاب المستطرف من كل فن مستظرف حيث جعلت أخلاق طاعة السلطان بل أسست أخلاق السلطان ووجوده حيث جعلت قسم طاعة السلطان في فاتحة كل كتاب.
يأتي بعدها أخلاق الصوفية والمتمثل في أخلاق الفناء والوحدة منتهية إلى فناء الأخلاق وارتفاعها عن القطب والغوث والمريد! أما الموروث اليوناني والمتمثل في أخلاق السعادة فإنه لم يدخل الثقافة العربية إلى كالدواء للأخلاق الرديئة ولم تنتشر فكرة اليونان حول سعادة الفرد الأساسية والتي تبنى عليها سعادة المدينة لإن أخلاق الطاعة والسلطان فرضت نفسها على مدينة أفلاطون الفاضلة ولم تجعل لأخلاق السعادة أي مجال.
أما الموروث العربي الخالص فهو يتمثل في أخلاق المروءة والمروءة اسم جامع للعديد من الأخلاق النبيلة مثل الجود والكرم و الشجاعة والشهامة والترفع بالنفس، ظلت أخلاق المروءة محتفظة برونقها منذ الجاهلية إلى القرن العشرين لأنه ببساطة أخلاق تشترك فيها كل الأمم وليس لأمة أي ميزة عن غيرها.
أخيرا يبحث الجابري حول الأخلاق الإسلامية ومحاولة أسلمة الأخلاق الفارسية واليونانية، ويوضح أن المحاسبي صاحب كتاب " الرعاية لحقوق الله " هو أول مؤلف عربي لاستخلاص أخلاق إسلامية من القرآن الكريم مباشرة ولكنه للأسف اهتم فقط في مجال أخلاق الدين والآخرة ولم يهتم بأخلاق الدنيا ، حاول المارودي الجمع بين أدب الدين والدنيا ولكنه لم يفلح كثيرا، كذلك حاول الراغب الإصفهاني في استخلاص أخلاق إسلامية في كتابة مكارم الشريعة ولكنه لم يستطع غير أسلمة الأخلاق اليونانية.
غير أن محاولة العز ابن عبدالسلام في كتابيه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام و شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال تبدو أقرب منهجية إلى تأسيس أخلاق إسلامية للدين والدنيا مستلهمة من القرآن الكريم والحديث الشريف واضعة القيمة المركزية هي مراعاة المصلحة والعمل الصالح هي أساس الأخلاق الإسلامية.
إلى هنا نكون قد أنهينا موسوعة نقد العقل العربي كما أراده الدكتور محمد عابد الجابري، وهي موسوعة قيمة أنصح الجميع بقراءتها لأنها تكشف بحق أسرار الثقافة العربية الإسلامية وأصولها. لقد تغيرت نظرتي إلى الكثير من الأشياء في الكتب التراثية وبدأت أفهمها بعد أن كنت أستغرب من عدم فهمي لها أو بالأحرى لماذا هم يتناقشون في مسائل نحن نراها في عصرنا الحاضر الآن من البدهيات.
لقد تعرفت على العديد من الكتب الإسلامية والعربية وعرفت أهميتها من خلال موسوعة الجابري لنقد العقل العربي، وإني متشوق لقراءة بعضها الآن.
لأصدقك القول بأن مثل قراءة مثل هذه الملخصات تشجعني لقراءة الكتب نفسها خاصة عند المرور لبعض تعليقاتك الملهمة بالرجوع للكتاب الاصول والتبحر في القضايا المطروحة وخاصة انها تتعلق بماضينا وحضارتنا كعرب!!
ردحذفتعرفني بأن مثل هذه المواضيع لا تستهويني كثيرا ولكن سيكون لي مرور بها ان شاء الله
تقبل تطفلي!
noface
مبارك على الثيم الجديد!!
عمل رائع أن يعزم الفرد منا على قراءة الفكر المعاصر من مختلف أطرافه ولكن الأروع أن ننقد المكتوب ونعمل العقل ففي كثير من الأحيان يدس السم في الدسم وهذه المجموعة للجابري من هذا الباب في بعض ما فيها ، ويمكن الرجوع لقراءات كثرة للجابري مبثوثة على الشبكة منها: نظرات شرعية في فكر منحرف .
ردحذفوتقبل مروري
السلام عليكم
ردحذفعرض وملخص ممتع.
ورد في العرض ما نصه:
"أساطير وقصص خرافية حول الإمام حتى يعطو الأمل عند الضعفاء حتى عودة الإمام المنتظر، وبلا شك فإن هذه هي ثقافة الضعفاء والعاجزين في كل زمان."
أتساءل إن كان هذا من كلام الجابري رحمه الله في سياق عرضك لكتبه، أم ملاحظة ورأي منك.
أعجبني عرضكم كثيرا، و نبهني إلى أني لم أقرأ الجزء الخاص بالعقل الأخلاقي.
شكرا على التدوينة.